الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (17- 19): وقوله تعالى: {والذى قَالَ لوالديه} قال الثعلبيُّ: معناه: إذ دَعَوَاهُ إلى الإيمان، {أُفٍّ لَّكُمَا...} الآية، انتهى، و{الذى} يعنى به الجِنْسِ على حَدِّ العموم في التي قبلها في قوله: {وَوَصَّيْنَا الإنسان}؛ هذا قول الحسن وجماعة، ويشبه أَنَّ لها سبباً من رَجُلٍ قال ذلك لأبويه، فلما فرغ من ذكر المُوَفَّقِ، عَقَّبَ بذكر هذا العَاقِّ، وقد أنكرتِ عائِشَةُ أنْ تكونَ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بَكْر، وقالت: مَا نَزَلَ في آلِ أبي بَكْرٍ مِنَ القُرْآنِ غَيْرُ بَرَاءَتِي. * ت *: ولا يُعْتَرَضُ عليها بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثنين} [التوبة: 40] ولا بقوله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل} [النور: 22] كما بَيَّنَّا ذلك في غير هذه الآية، قال * ع *: والأَصوبُ أنْ تكونَ الآية عامَّةً في أَهل هذه الصفات، والدليلُ القاطعُ على ذلك: قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ} وكان عبدُ الرحمن بن أبي بكر رضي اللَّه عنه من أفاضل الصحابة، ومن أبطال المسلمين، ومِمَّنْ له في الإسلام غَنَاءٌ يومَ اليمامة وغيره، و{أُفٍّ} بالتنوين قراءة نافع وغيره، والتنوينُ في ذلك عَلاَمَةُ تنكيرٍ؛ كما تَسْتَطْعِمُ رَجُلاً حَدِيثاً غَيْرَ مُعَيَّنٍ فتقول: إيهٍ منونةً، وإنْ كان حديثاً مُشَاراً إليه قلت: إيهِ بغير تنوين. وقوله: {أَتَعِدَانِنِى أَنْ أُخْرَجَ} المعنى: أَنْ أُخْرَجَ مِنَ القَبْرِ إلى الحَشْرِ، وهذا منه استفهامٌ بمعنى الهُزْءِ والاِستبعاد. {وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِى} معناه: هَلَكَتْ ومَضَتْ، ولم يخرجْ منهم أحد، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ الله} يعني: الوالدَيْنِ يقُولاَنِ له: {وَيْلَكَ ءَامِنْ}. وقوله: {مَا هذا إِلاَّ أساطير الأولين} أي: ما هذا القول الذي يتضمَّنُ البَعْثَ من القبور إلاَّ شيءٌ سَطَرَهُ الأَوَّلُون في كتبهم، يعني: الشرائعَ، وظاهر ألفاظ هذه الآية أَنَّها نزلَتْ في مُشَارٍ إليه، قال: وقِيلَ له، فنعى اللَّه إلينا أقواله؛ تحذيراً من الوقوع في مثلها. وقوله: {أولئك} ظاهره أَنَّها إشارة إلى جنْسٍ، و{حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي: قول اللَّه: إنَّهُ يُعَذِّبُهُم؛ قال أبو حَيَّان {فِى أُمَمٍ} أي: في جملة أُمَمٍ ف {في} على بابها، وقيل: {فِى} بمعنى مع، وقد تقدم ذلك، انتهى. وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس} يقتضى أَنَّ الجِنَّ يموتون، وهكذا فَهِمَ الآية قتادة، وقد جاء حديثٌ يقتضى ذلك. وقوله سبحانه: {وَلِكُلٍّ درجات} يعني: المحسنين والمُسِيئِين، قال ابن زيد: ودرجات المحسنين تذهبُ عُلْواً، ودرجاتُ المسيئين تذهب سُفْلاً، وباقي الآية بَيِّنٌ في أَنَّ كُلَّ امرئ يجتني ثَمَرَةَ عَمَلِهِ مِنْ خَيْرٍ أو شَرٍّ، ولا يُظْلَمُ في مجازاته. .تفسير الآيات (20- 22): وقوله عز وجل: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار...} الآية، المعنى: واذكر يومَ يُعْرَضُ، وهذا العرض هو بالمباشرة {أَذْهَبْتُمْ} أي: يقال لهم: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم في حياتكم الدنيا} والطَّيِّبَاتُ هنا: المَلاَذُّ، وهذه الآية، وإنْ كانت في الكُفَّار، فهي رادعة لأُولي النهى من المؤمنين عن الشهوات واستعمالِ الطَّيِّبَاتِ؛ ومن ذلك قولُ عُمَرَ رضي اللَّه عنه: أتَظُنُّونَ أَنَّا لا نَعْرِفُ طَيِّبَ الطَّعَامِ؟ ذلك لُبَابُ البُرِّ بِصِغَارِ المعزى، ولكنِّي رأيتُ اللَّه تعالى نعى على قومٍ أَنَّهم أَذْهَبُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حياتِهِمُ الدنيا، ذكَرَ هذا في كلامِهِ مع الرَّبيع بْنِ زِيَادٍ، وقال أيضاً نحو هذا لخالد بن الوَلِيدِ حينَ دَخَلَ الشَّامَ، فَقُدِّمَ إليه طعام طَيِّبٌ، فقال عمر: هذا لنا، فما لفقراءِ المسلمينَ الَّذِينَ ماتوا ولم يَشْبَعُوا من خُبْزِ الشَّعِير؟ فقال خالدٌ: لَهُمُ الجَنَّةُ، فبكى عُمَرُ، وقال: لَئِنْ كَانَ حَظُّنَا في الحُطَامَ، وذَهَبُوا بالجَنَّةِ فَقَدْ بَانُوا بُوْناً بَعِيداً، وقال جابرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: اشتريت لحماً بدرهم، فرآني عمر، فقال: أَوَكُلَّمَا اشتهى أَحَدُكم شَيْئاً اشتراه فأكَلَهُ؟! أما تخشى أنْ تكون من أهل هذه الآية، وتلا: {أَذْهَبْتُمْ طيباتكم في حياتكم الدنيا} * ت *: والآثار في هذا المعنى كثيرةٌ جِدًّا، فمنها ما رواه أبو داود في سُنَنِهِ، عن عبد اللَّه بن بُرَيْدَةَ أَنَّ رجُلاً من أصحاب النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، رَحَلَ إلى فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، وهو بِمَصْرَ، فَقَدِمَ عليه، فقال: أَمَا إنِّي لم آتِكَ زَائِراً ولكنْ سَمِعْتُ أَنا وأَنْتَ حَدِيثاً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، رَجَوْتُ أَنْ يكونَ عندَكَ منْهُ عِلْمٌ، قال: ما هو؟ قال: كذا وكذا، قال: فمالي أَرَاكَ شَعْثاً وأَنْتَ أَمِيرُ الأَرْضِ؟! قال: إنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، كان ينهى عن كثيرٍ من الإرفَاهِ، قال: فمالي لا أرى عَلَيْكَ حِذَاءً؟ قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يأمرنا أَنْ نَحْتَفِيَ أحياناً، وروى أبو داوُدَ عَنْ أَبي أُمَامَةَ قال: ذكر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يوماً عنده الدنيا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تَسْمَعُونَ أَنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ؟ إِنَّ الْبَذَاذَةَ مِنَ الإيمَانِ، إن الْبَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ» قال أبو داوُدَ: يعني: التَّقَحُّلَ، وفسر أبو عمر بن عبد البَرِّ: البَذَاذَةَ بِرَثِّ الْهَيْئَةِ، ذكر ذلك في التمهيد، وكذلك فَسَّرَهَا غيره، انتهى،، وروى ابن المبارك في رقائقه من طريق الحسن عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ خَرَجَ في أَصْحَابِهِ إلَى بَقِيعِ الغَرْقَدِ، فَقَالَ: «السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْقُبُورِ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا نَجَّاكُمُ اللَّهُ مِنْهُ مِمَّا هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكُم! ثُمَّ أَقْبَلَ على أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: هَؤُلاَءِ خَيْرٌ مِنْكُمْ؛ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إخْوانُنَا، أَسْلَمْنَا كَمَا أَسْلَمُوا، وَهَاجَرْنَا كَمَا هَاجَرُوا، وَجَاهَدْنَا كَمَا جَاهَدُوا، وَأَتَوا على آجَالِهِمْ فَمَضَوْا فِيهَا وَبَقِينَا في آجالِنَا، فَمَا يَجْعَلُهُمْ خَيْراً مِنَّا؟! قال: هَؤُلاَءِ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَأْكُلُوا مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَخَرَجُوا وَأَنا الشَّهِيدُ عَلَيْهِمْ، وإنَّكُمْ قَدْ أَكَلْتُمْ مِنْ أُجُورِكُمْ، وَلاَ أَدْرِي مَا تُحْدِثُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قال: فَلَمَّا سَمِعَهَا الْقَوْمُ عَقَلُوهَا وَانْتَفَعُوا بِهَا، وَقَالُوا: إنَّا لَمُحاسَبُونَ بِمَا أَصَبْنَا مِنَ الدُّنْيَا، وَإنهُ لَمُنْتَقَصٌ بِهِ مِنْ أُجُورِنَا» انتهى، ومنها حديثُ ثَوْبَانَ في سنن أَبي دَاوُدَ: قال ثَوْبَانُ: كانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا سَافَرَ كَانَ آخِرُ عَهْدِهِ بِإنْسَانٍ مِنْ أَهْلِهِ فَاطِمَةَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْهَا فَاطِمَةَ، فَقَدِمَ مِنْ غَزَاةٍ، وَقَدْ عَلَّقَتْ مِسْحاً أوْ سِتْراً على بَابِهَا، وَحَلَّتِ الحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ قُلْبَيْنِ مِنْ فِضَّةٍ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَظَنَّتْ أَنَّما مَنَعَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَا رأى؛ فَهَتَكَتِ السِّتْرَ، وَفَكَّتِ القُلْبَيْنِ عَنِ الصَّبِيَّيْنِ وَقَطَعَتْهُمَا عَنْهُمَا، فانطلقا إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْكِيَانِ، فَأَخَذَهُمَا مِنْهُمَا، وَقَالَ: يَا ثَوْبَانُ، اذهب بِهِمَا إلَى آلِ فُلاَنٍ؛ إنَّ هَؤُلاَءِ أَهْلِي أَكْرَهُ أَنْ يَأْكُلُوا طَيِّبَاتِهِمْ في حَيَاتِهُمْ الدُّنْيَا، يَا ثَوْبَانُ، اشتر لِفَاطِمَةَ قَلاَدَةً مِنْ عَصْبٍ وَسِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ انتهى، * ص *: قرأ الجمهور: {أَذْهَبْتُمْ} على الخبر، أي: فيقال لهم: أذهبتم طَيِّبَاتكم، وابن كثير بهمزة بعدها مَدَّة مُطَوَّلَةً، وابن عامر بهمزتين حَقَّقَهما ابن ذَكْوَانَ، ولَيَّنَ الثانيةَ هشامٌ وابن كثير في روايةٍ، والاستفهامُ هنا على معنى التوبيخ والتقريرِ، فهو خبر في المعنى، ولهذا حَسُنَتِ الفاء في قوله: {فاليوم}، ولو كان استفهاما مَحْضاً لما دخلَتِ الفاء، انتهى، و{عَذَابَ الهون} هو الذي اقترن به هوانٌ، فالهُونُ والهَوَانُ بمعنى. ثم أمر تعالى نِبِيَّه بذكر هود وقومه عادٍ؛ على جهة المثال لقريشٍ، وقد تقدَّم قَصَصَ عادٍ مُسْتَوفًى في سورة الأعراف، فلينظر هناك، والصحيحُ من الأقوال أَنَّ بلادَ عادٍ كانت باليمن، ولهم كانَتْ إرَمُ ذاتُ العمادِ، و{بالأحقاف}: جَمْعُ حِقْفٍ وهو الجبل المستطيل المُعْوَجُّ من الرَّمْلِ. وقوله سبحانه: {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله إِنِّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} {خَلَتِ} معناه: مَضَتْ إلى الأرض الخَلاَءِ، و{النذر} جمع نَذِيرٍ، وقولهم: {لِتَأْفِكَنَا} معناه: لِتَصْرِفَنَا، وقولهم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} تصميم منهم على التكذيب، وتعجيزٌ له في زعمهم. .تفسير الآيات (23- 26): وقوله سبحانه: {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله...} الآية، المعنى: قال لهم هود: إنَّ هذا الوعيد ليس من قِبَلِي، وإنما الأمر فيه إلى اللَّه، وعِلْمُ وقته عنده، وإنَّما عَلَيَّ أَنْ أُبَلِّغَ فقطْ، والضميرُ في {رَأَوْهُ} يحتمل أنْ يعودَ على العذاب، ويحتمل أنْ يعودَ على الشيء المرئِيِّ الطالِعِ عليهم، وهو الذي فَسَّرَهُ قوله: {عَارِضاً} والعَارِض: هو ما يَعْرِضُ في الجَوِّ من السحاب المُمْطِر؛ قال ابن العربيِّ في أحكامه عند تفسيره قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} [البقرة: 224]: كُلُّ شيء عَرَضَ، فقد مَنَعَ، ويقال لِمَا عَرَضَ في السماء من السحاب: عارِضٌ؛ لأَنَّه مَنَعَ من رؤيتها ومن رؤية البدر والكواكب، انتهى، ورُوِيَ في معنى قوله: {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ}؛ أَنَّ هؤلاء القومَ كانوا قد قَحَطُوا مُدَّةً، فطلع هذا العارض من جهة كانوا يُمْطَرُونَ بها أبداً، جاءهم من قِبَلِ وادٍ لهم يسمونه المُغِيثَ، قال ابن عباس: ففرحوا به، وقالوا: هذا عارضٌ مُمْطِرُنا، وقد كذب هودٌ فيما أوعد به، فقال لهم هُودٌ عليه السلام: ليس الأمر كما رأيتم، بل هو ما استعجلتم به في قولكم: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف: 22] ثم قال: {رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي قراءة ابن مسعود: {مُمْطِرُنَا قَالَ هُودٌ: بَلْ هُوَ رِيحٌ} بإظهار المُقَدَّرِ و{تُدَمِّرُ} معناه: تُهْلِكُ، ووالدمار: الهلاك، وقوله: {كُلَّ شَئ} ظاهره العموم، ومعناه الخُصُوصُ في كُلِّ ما أُمِرَتْ بتدميره، وروي أَنَّ هذه الريح رمتهم أجمعين في البَحْرِ. ثم خاطب جلَّ وعلا قريشاً على جهة الموعظة بقوله: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} فَ مَا بمعنى الذي، و{إن} نافية وقعتْ مكان مَا لمختلف اللفظ، ومعنى الآية: ولقد أعطيناهُمْ من القُوَّةِ والغنى والبَسْطِ في الأموال والأجسامِ ما لم نُعْطِكُمْ، ونالهم بسَبَبِ كُفْرِهِمْ هذا العَذَابُ؛ فأنتم أحرى بذلك؛ إذا تماديتم في كفركم، وقالت فرقة: إنْ شرطية، والجواب محذوف، تقديره: في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طغيتم، وهذا تَنَطُّعٌ في التأويل، وما نافية في قوله: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ}؛ ويقوِّي ذلك دخولُ مِنْ في قوله: {مِّن شَئ}، وقالت فرقةٌ: بل هي استفهامٌ؛ على جهة التقرير؛ و{مِّن شَئ} على هذا تأكيدٌ؛ وهذا على غير مذهب سيبَوَيْهِ في دخول مِنْ في الجواب. .تفسير الآيات (27- 28): وقوله عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى...} الآية، مخاطبة لقريشٍ على جهة التمثيلِ {وَصَرَّفْنَا الايات} يعني: لهذه القرى. وقوله سبحانه: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ...} الآية، يعني: فهلا نَصَرَتْهُمْ أصنامُهُمْ، {بل ضَلُّوا عنهم} أي: انتلفوا عنهم وقت الحاجة {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} إشارةٌ إلى قولهم في الأصنامِ: إنها آلهةٌ. وقوله: {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يحتمل أَنْ تكون ما مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائد، ويحتمل أَنْ تكون بمعنى الذي فهناك عائد محذوف، تقديره: يَفْتَرُونَهُ. .تفسير الآيات (29- 33): وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن...} ابتداءُ، ابتداءُ وَصْفِ قِصَّةِ الجِنِّ ووفادتهم على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقد اختلفت الرُّوَاةُ هِنَا: هَلْ هذا الجِنُّ هُمُ الوَفْدُ أوِ المُتَجَسِّسُونَ؟ واختلفتِ الرواياتُ أيضاً عنِ ابنِ مَسْعُودٍ وغيرهِ في هذا الباب. والتحرير في هذا أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءه نَفَرٌ من الجِنِّ دون أَنْ يَشْعُرَ بهم، وهم المتجسِّسون المتفرِّقون من أَجْلِ رَجْمِ الشُّهُبِ الذي حَلَّ بِهِمْ، وهؤلاءِ هُمُ المرادُ بقوله تعالى: {قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ...} [الجن: 1] ثم بعد ذلك وفد عليه وَفْدُهُمْ؛ حَسْبَمَا وَرَدَ في ذلك من الآثار. وقوله: {نَفَراً} يقتضي أَنَّ المصروفين كانوا رجالاً لا أنثى فيهم، والنَّفَرُ والرَّهْطُ هم: القوم الذين لا أنثى فيهم. وقوله تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ} فيه تَأَدُّبٌ مع العلم، وتعليم كيف يُتَعَلَّمُ {فَلَمَّا قُضِىَ} أي: فرغ من تلاوة القرآنِ واستماع الجن، قال جابر بن عبد اللَّه وغيرُه: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرَأَعليهم سورة {الرحمن} فكان إذَا قال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] قالوا: لا بشَيْءٍ مِنْ آلائك نُكَذِّبُ، رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ، ولَمَّا وَلَّتْ هذه الجملةُ تفرَّقَتْ على البلاد مُنْذِرَةً لِلْجِنِّ، وقولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا} يَعْنُونَ: القرآن. * ت *: وقولهم: {مِن بَعْدِ موسى} يحتمل أَنَّهُمْ لم يعلموا بِعِيسَى؛ قاله ابن عباس، أوْ أَنَّهم على دِينِ اليهودِ، قاله عطاء؛ نقل هذا الثعلبيُّ، ويحتمل ما تَقَدَّم ذِكْرَه في غير هذا، وأَنَّهم ذكروا المُتَّفَقَ عليه، انتهى. {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} وهي التوراة والإنجيل، وداعي اللَّه هو محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم {وَآمِنُواْ بِهِ} أي: باللَّه {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ...} الآية. * ت *: وذكر الثعلبيُّ خلافاً في مُؤمني الجِنِّ، هل يُثَابُونَ على الطاعةِ ويدخُلُونَ الجَنَّة، أو يُجَارُونَ من النار فقطْ؟ اللَّه أعلم بذلك، قال الفخر: والصحيحُ أَنَّهم في حُكْمِ بني آدم يستحِقُّون الثوابَ على الطاعة، والعقابَ على المعصية، وهو قول مالك، وابن أبي ليلى؛ قال الضَّحَّاكُ: يدخلون الجنة، ويأكلون ويشربون، انتهى، وقد تَقَدَّمَ ما نقلناه عن البخاريِّ في سورة الأنعام؛ أَنَّهُمْ يُثَابُونَ. وقوله سبحانه: {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ...} الآية: يحتملُ أَنْ يكون مِنْ تمامِ كلام المُنْذِرِين، ويحتمل أَنْ يكونَ من كلام اللَّه عزَّ وجلَّ، والمُعْجِزُ: الذاهبُ في الأَرض الذي يُعْجَزُ طالِبَهُ؛ فلا يَقْدِرُ عليه. وقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الضمير لقريش؛ وذلك أَنَّهم أنكروا البعث وعَوْدَ الأجساد، وهُمْ مع ذلك معترِفُونَ بأَنَّ اللَّه تعالى خَلَقَ السموات والأَرْضَ، فَأُقِيمَتْ عليهم الحُجَّةُ مِنْ أقوالهم * ص *: قال أبو حَيَّان: والباء في قوله: {بِقَادِرٍ} زائدةٌ،، انتهى. .تفسير الآيات (34- 35): وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} المعنى: واذكرْ يومَ، وهذا وعيدٌ لكفَّار قريشٍ وغيرهم، وهذا عَرْضُ مباشرةٍ. وقوله: {أَلَيْسَ هذا بالحق} أي: يقال لهم: أليس هذا بالحق؟ {قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا} فصدَّقوا بذلك حيث لا ينفعهم التصديقُ، فَرُوِيَ عن الحَسَنِ؛ أنه قال: إنَّهم لَيُعَذَّبُونَ في النارِ، وهم راضون بذلك لأنفسهم يعترفون أَنَّهُ العَدْل. واخْتُلِفَ في تعيين أُولى الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، ولا محالةَ أَنَّ لكل نبيٍّ ورسولٍ عَزْماً وصَبْراً. وقوله: {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} معناه: ولا تستعجلْ لهم عذاباً؛ فإنَّهم إليه صائرون، ولا تَسْتَطِلْ تعميرَهُمْ في هذه النِّعْمَةِ؛ فَإنَّهم يوم يَرَوْنَ العذاب كأنهم لَم يَلْبَثُوا في الدنيا إلاَّ ساعةً لاِحتقارهم ذلك؛ لأَنَّ المنقضيَ من الزمان يصير عَدَماً. * ت *: وإذا علمتَ أَيُّها الأخُ أَنَّ الدنيا أضغاثُ أحْلاَم، كان من الحزم اشتغالُكَ الآنَ بتَحْصِيلِ الزادِ لِلْمَعَاد، وحِفْظِ الحَواسِّ، ومراعاةِ الأنفاس، ومراقبة مَوْلاَك، فَآتَّخِذْهُ صاحباً، وذَرِ الناس جانباً؛ قال أبو حامد الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه: اعلم أَنَّ صاحبك الذي لا تفارقُهُ في حَضَرِكَ وسَفَرِكَ، ونَوْمِكَ ويَقَظَتِكَ، بل في حياتك، وموتك هو رَبُّك، ومولاك، وسَيِّدُك، وخالقك، ومهما ذكرتَهُ فهو جَلِيسُكَ؛ إذ قال تعالى: «أَنَا جَلِيسُ مَنْ ذَكَرَنِي»، ومهما انكسر قلبُكَ حُزْناً على تَقْصِيرِكَ في حق دِينِكَ، فهو صَاحِبُكَ ومُلاَزِمُكَ؛ إذْ قال: «أَنَا عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبهمْ مِنْ أَجْلِي» فلو عرفته يا أخي حَقَّ معرفتِهِ لاَتَّخذْتَهُ صَاحِباً، وتركْتَ الناَّسَ جانباً، فإنْ لم تَقْدِرْ على ذلك في جميع أوقاتك، فَإيَّاكَ أنْ تُخْلِيَ ليلَكَ ونهارَكَ عَنْ وَقْتٍ تخلُو فيه بموْلاَكَ، وتَلذَّذُ بمناجاتِهِ، وعند ذلك فعليكَ بآدَابِ الصُّحْبَةِ مع اللَّه تعالى، وآدابُهَا: إطراقُ الطَّرْفِ، وجَمْعُ الهَمِّ، ودَوَامُ الصَّمْتِ، وسُكُونُ الجَوَارِحِ، ومُبَادَرَةُ الأَمْرِ، واجتنابُ النَّهْي، وقِلَّةُ الاِعتراضِ عَلَى الْقَدَرِ، ودَوَامُ الذِّكْرِ باللسان، ومُلاَزَمَةُ الفِكْر، وإيثارُ الحَقِّ، واليَأْسُ من الخَلْقِ، والخضوعُ تحْتَ الهيبَةِ، والانْكِسَارُ تحت الحياء، والسُّكُونُ عن حِيَلِ الكَسْب ثِقَةً بالضَّمَان، والتَوَكُّلُ على فَضْل اللَّه معرفةً بحسن اختياره؛ وهذا كله ينبغي أنْ يكون شعارَكَ، في جميع لَيْلِكَ ونَهَارِك، فإنَّهُ آداب الصحبة مع صاحب لا يفارقك، والخلق كُلُّهم يفارقُونَكَ في بَعْضِ أوقاتك،، انتهى من بداية الهداية. وقوله: {بَلاَغٌ} يحتمل معانيَ: أحدُهَا: أَنْ يكون خبر مبتدإ محذوفٍ، أي: هذا إنذارٌ وتبليغٌ. ويحتمل أنْ يريد: كأنْ لم يلبثوا إلاَّ ساعةً كانَتْ بلاغَهُمْ، وهذا كما تَقُولُ: متاعٌ قليلٌ، وقيل غَيْرُ هذا، وقرأ أبو مِجْلَزٍ وغَيره: {بَلَغٌ} على الأمر، وقرأ الحسنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: {بَلاَغٌ} بالخفْضِ نعتاً ل {نَّهَارٍ}. وقوله سبحانه: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} وقُرِئ شَاذاً: {فَهَلْ يُهْلَكُ} ببناء الفعل للفاعل، وفي هذه الآية وعيدٌ مَحْضٌ، وإنذارٌ بَيِّنٌ؛ وذلك أَنَّ اللَّه عز وجل جعل الحسنة بعشر أمثالها والسيئةَ بمثلها، وغفر الصغائر باجتنابِ الكبائرِ، ووعد الغفرانَ على التوبة، فلن يهلك على اللَّه إلاَّ هالَكَ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم قال الثعلبيُّ: يقال: إن قوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} أرجى آية في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين.
|